كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: فِي إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مُخْتَصٌّ بِالْعَرْشِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقول. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا زَالَ مُقْتَدِرًا عَلَيْهِ مِنْ حِينِ خلقهُ. وَمِنْهَا كَوْنُ لَفْظِ (الِاسْتِوَاءِ) فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقال علي الْقُدْرَةِ أَوْ عُلُوِّ الْقَدْرِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ. وَالِاسْتِعْمَالُ الْمَوْجُودُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ يَمْنَعُ هَذَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَتَكَلَّمَ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي يَحْتَجُّونَ بِهِ:
ثُمَّ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ** مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ

وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ. فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقولوا: اسْتَوَى عُمَرُ عَلَى الْعِرَاقِ لَمَّا فَتَحَهَا وَلَا اسْتَوَى عُثْمَانُ عَلَى خُرَاسَانَ وَلَا اسْتَوَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عَلَى الْيَمَنِ. وَإِنَّمَا قِيلَ هَذَا الْبَيْتُ إنْ صَحَّ فِي بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ لَمَّا دَخَلَ الْعِرَاقَ وَاسْتَوَى عَلَى كُرْسِيِّ مَلِكِهَا. فَقِيلَ هَذَا كَمَا يُقال: جَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ أَوْ تَحْتَ الْمُلْكِ وَيُقال: قَعَدَ عَلَى الْمُلْكِ وَالْمُرَادُ هَذَا. وَأَيْضًا فَالْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ. وَأَمَّا الَّذِينَ قالوا: الِاسْتِوَاءُ صِفَةُ فِعْلٍ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ قولانِ هُنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ هَلْ هُوَ فِعْلٌ بَائِنٌ عَنْهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَمْ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. الْأَوَّلُ قول ابْنِ كِلَابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ قول الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي وَغَيْرِهِمْ.
وَالثَّانِي قول أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِهَذَا صَارَ لِلنَّاسِ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي القرآن مِنْ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ. طَائِفَةٌ يَقولونَ: تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَجْعَلُونَ إتْيَانَهُ مِنْ جِنْسِ إتْيَانِ الْمَخْلُوقِ وَنُزُولَهُ مِنْ جِنْسِ نُزُولِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ الْمُشَبِّهَةُ الْمُمَثِّلَةُ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقول: إذَا نَزَلَ خَلَا مِنْهُ الْعَرْشُ فَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَطَائِفَةٌ يَقولونَ: بَلْ النُّصُوصُ عَلَى ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ مَا وُصِفَ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. وَيَقولونَ: نَزَلَ نُزُولًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَذَلِكَ يَأْتِي إتْيَانًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ. وَهُوَ عِنْدُهُمْ يَنْزِلُ وَيَأْتِي وَلَمْ يَزَلْ عَالِيًا وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا قال حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ يَقْرُبُ مِنْ خلقهِ كَيْفَ شَاءَ.
وقال إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه: يَنْزِلُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ. وَتَفْسِيرُ النُّزُولِ بِفِعْلِ يَقُومُ بِذَاتِهِ هُوَ قول عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُمْ وَهُوَ قول عَامَّةِ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ.
وَالْأَوَّلُ نَفْيُ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ هُوَ قول التَّمِيمِيِّ مُوَافَقَةً مِنْهُ لِابْنِ كِلَابٍ وَهُوَ قول الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَتْبَاعِهِ. وَطَائِفَتَانِ يَقولانِ: بَلْ لَا يَنْزِلُ وَلَا يَأْتِي كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَوِّضُ مَعْنَاه. وَطَائِفَتَانِ وَاقِفَتَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقول: مَا نَدْرِي مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَزِيدُ عَلَى تِلَاوَةِ القرآن. وَعَامَّةُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَاعُ السَّلَفِ يُبْطِلُونَ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِمَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَوِي الْآتِي لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرُدُّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ وَيَقول: مَا أَعِرْفُ مُرَادَ اللَّهِ بِهَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقول: هَذَا مِمَّا نُهِيَ عَنْ تَفْسِيرِهِ أَوْ مِمَّا يُكْتَمُ تَفْسِيرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَرِّرُهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْآثَارُ الْكَثِيرَةُ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
قال أَبُو مُحَمَّدٍ البغوي الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْفَرَّاءُ الْمُلَقَّبُ بـ: مُحْيِي السُّنَّةِ فِي تَفْسِيرِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ: أَيْ ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاءِ.
وقال الْفَرَّاءُ وَابْنُ كيسان وَجَمَاعَةٌ مِنْ النَّحْوِيِّينَ: أَيْ أَقْبَلَ عَلَى خلق السَّمَاءِ.
وقيل: قَصَدَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ.
قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} أَيْ عَمَدَ إلَى خلقهَا. وَكَذَلِكَ هُوَ يُرَجِّحُ قول مَنْ يُفَسِّرُ الْإِتْيَانَ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَقول مَنْ يَتَأَوَّلُ الِاسْتِوَاءَ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كُتُبٍ أُخْرَى وَوَافَقَ بَعْضَ أَقْوَالِ ابْنِ عَقِيلٍ.
قال: ابْنُ عَقِيلٍ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَتَصَانِيفُ يَخْتَلِفُ فِيهَا رَأْيُهُ وَاجْتِهَادُهُ.
وقال البغوي فِي تَفْسِيرِ قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: قال الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: اسْتَقَرَّ.
وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: صَعِدَ. وَأَوَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ. وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقولونَ: الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ صِفَةٌ لِلَّهِ بِلَا كَيْفٍ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْإِيمَانُ بِهِ وَيَكِلُ الْعِلْمَ فِيهِ إلَى اللَّهِ. وَسَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ رَأْسَهُ مَلِيًّا وَعَلَاهُ الرُّحَضَاءُ ثُمَّ قال. الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقول وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمَا أُرَاك إلَّا ضالا. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ.
قال: رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ: أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ.
وقال فِي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} الأولى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيمَا شَاكَلَهَا أَنْ يُؤْمِنَ الإنسان بِظَاهِرِهَا وَيَكِلَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ. عَلَى ذَلِكَ مَضَتْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ.
قال الْكَلْبِيُّ: هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ.
قُلْت: وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قال فِي تَفْسِيرِ قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} اسْتَقَرَّ. فَفَسَّرَ ذَاكَ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ. لِأَنَّ ذَاكَ فِيهِ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهَذَا فِيهِ إتْيَانُهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ.
قال البغوي: وَكَانَ مَكْحُولٌ وَالزَّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِي وَمَالِكٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقُ يَقولونَ فِيهِ وَفِي أمثاله: أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ.
قال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: كُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ فَتَفْسِيرُهُ قراءته وَالسُّكُوتُ عَنْهُ؛ لَيْسَ لِأحد أَنْ يُفَسِّرَهُ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أغمض مِنْ آيَةِ الِاسْتِوَاءِ. وَلِهَذَا كَانَ أَبُو الْفَرَجِ يَمِيلُ إلَى تَأْوِيلِ هَذَا وَيُنْكِرُ قول مَنْ تَأَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ.
قال فِي تَفْسِيرِهِ قال الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَد: (الْعَرْشُ) السَّرِيرُ وَكُلُّ سَرِيرٍ لِلْمُلْكِ يُسَمَّى (عَرْشًا) وَقَلَّمَا يُجْمَعُ الْعَرْشُ إلَّا فِي الِاضْطِرَارِ.
قلت: وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: يُسَمَّى (عَرْشًا) لِارْتِفَاعِهِ.
قلت: وَالِاشْتِقَاقُ يَشْهَدُ لِهَذَا كَقوله: {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} وَقوله: {مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ}. وَقول سَعْدٍ: وَهَذَا كَافِرٌ بِالْعَرْشِ. وَمَقْعَدُ الْمَلِكِ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ. فَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ عَالٍ عَلَيْهِ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَوْقَهُ هُوَ دُونَهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ». فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرٍ.
قال أَبُو الْفَرَجِ: وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْعَرْشِ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ.
قال أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ** رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا

بِالْبِنَاءِ الأعلى الَّذِي سَبَقَ النَّا ** س وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا

شَرْجَعًا لَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْـ ** نِ تَرَى دُونَهُ الْمَلَائِكُ صُوَرًا

قُلْت: يُرِيدُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَإِنَّ أُمِّيَّةَ وَنَحْوَهُ إنَّمَا أَخَذَ هَذَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا.
قال أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقال كَعْبٌ: إنَّ السَّمَوَاتِ فِي الْعَرْشِ كَقِنْدِيلِ مُعلق بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
قال: وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنْ لَا يَزِيدُوا عَلَى قراءة الْآيَةِ. وَقَدْ شَذَّ قَوْمٌ فَقالوا: الْعَرْشُ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى التَّجَوُّزِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَثَرِ. أَلَمْ يَسْمَعُوا قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} أَفَتُرَاهُ كَانَ الْمُلْكُ عَلَى الْمَاءِ؟.
قال وَبَعْضُهُمْ يَقول: اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَيَسْتَدِلُّ بِقول الشَّاعِرِ:
حَتَّى اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ** مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ

وَقال الشَّاعِرُ أَيْضًا:
قَدْ قَلَّمَا اسْتَوَيَا بِفَضْلِهِمَا جَمِيعًا ** عَلَى عَرْشِ الْمُلُوكِ بِغَيْرِ زُورِ

قال: وَهُوَ مُنْكَرٌ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ.
قال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْلَمُ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَمَنْ قال ذَلِكَ فَقَدْ أَعْظَمَ.
قال: وَإِنَّمَا يُقال اسْتَوْلَى فُلَانٌ عَلَى كَذَا. إذَا كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ ثُمَّ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُسْتَوْلِيا علي الْأَشْيَاءِ. وَالْبَيْتَانِ لَا يُعْرَفُ قَائِلَهُمَا كَذَا قال ابْنُ فَارِسٍ اللُّغَوِيُّ. وَلَوْ صَحَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيهِمَا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ اسْتِيلَاءِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْلِيًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ تَعْطِيلِ الْمُلْحِدَةِ وَتَشْبِيهِ الْمُجَسِّمَةِ.
قلت: فَقَدْ تَأَوَّلَ قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ}. وَأَنْكَرَ تَأْوِيلَ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. وَهُوَ فِي لَفْظِ (الْإِتْيَانِ) قَدْ ذَكَرَ الْقوليْنِ فَقال: قوله: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ يُمْسِكُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قال: الْمُرَادُ بِهِ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ.
قال: وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي قوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.
قلت: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ حَنْبَلًا نَقَلَهُ عَنْ أَحْمَد فِي كِتَابِ (الْمِحْنَةِ) أَنَّهُ قال ذَلِكَ فِي الْمُنَاظَرَةِ لَهُمْ يَوْمَ الْمِحْنَةِ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقوله: «تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ».
قالوا: وَالْمَجِيءُ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَخْلُوقِ. فَعَارَضَهُمْ أَحْمَد بِقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} وَقال: الْمُرَادُ بِقوله: «تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ».: ثَوَابُهُمَا كَمَا فِي قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِيمَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ. فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ أَحْمَد فِي مَنْعِهِ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا وَتَأْوِيلِ النُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. قِيلَ: إنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنْ حَنْبَلٍ انْفَرَدَ بِهِ دُونَ الَّذِينَ ذَكَرُوا عَنْهُ الْمُنَاظَرَةَ مِثْلَ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ والمروذي وَغَيْرِهِمْ. فَإِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا هَذَا وَحَنْبَلٌ يَنْفَرِدُ بِرِوَايَاتِ يُغَلِّطُهُ فِيهَا طَائِفَةٌ كَالْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ.
قال أَبُو إسْحَاقَ ابْنُ شاقلا: هَذَا غَلَطٌ مِنْ حَنْبَلٍ لَا شَكَّ فِيهِ. وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ تَأَوَّلَ «يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» أَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْرُهُ. لَكِنَّ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبٍ كَاتِبِهِ وَهُوَ كَذَّابٌ بِاتِّفَاقِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَكِنَّ الْإِسْنَادَ مَجْهُولٌ.
وَالْقول الثاني: قال طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد: هَذَا قالهُ إلْزَامًا لِلْخَصْمِ عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُمْ فِي يَوْمِ الْمِحْنَةِ لَمَّا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقوله: «تَأْتِي الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ». أَجَابَهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: يَأْتِي ثَوَابُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ كَقوله: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} أَيْ أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ عَلَى تَأْوِيلِهِمْ لَا أَنَّهُ يَقول بِذَلِكَ. فَإِنَّ مَذْهَبَهُ تَرْكُ التَّأْوِيلِ. وَالْقول الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَقَدْ يَخْتَلِفُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي مَسَائِلَ مِثْلِ هَذِهِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ رِدُّ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ ابْنُ الزَّاغُونِي وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ أَنَّ تَرْكَ التَّأْوِيلِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْمُولُ عَلَيْهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَرِوَايَةُ التَّأْوِيلِ فَسَّرَ ذَلِكَ بِالْعَمْدِ وَالْقَصْدِ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِالْأَمْرِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فَسَّرُوا {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ}. فَعَلَى هَذَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ إذَا قِيلَ بِهِ وَجْهَانِ. وَابْنُ الزَّاغُونِي وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَحْوُهُمَا وَإِنْ كَانُوا يَقولونَ بِإِمْرَارِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقولهمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ قول ابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ. فَإِنَّهُ أَيْضًا يَمْنَعُ تَأْوِيلَ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَيَجْعَلُهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَيَقول: إنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَجْسَامَ بَلْ يُوصَفُ بِهَا غَيْرُ الْأَجْسَامِ. وَكَلَامُ ابْنِ الزَّاغُونِي فِي هَذَا النَّوْعِ وَفِي اسْتِوَاءِ الرَّبِّ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ مُوَافِقٌ لِقول أَبِي الْحَسَنِ نَفْسِهِ. هَذَا قولهمْ فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ.
وَأَمَّا عُلُوُّ الرَّبِّ نَفْسِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ فَعِنْدَ ابْنِ كِلَابٍ أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ كَقول أَكْثَرِ الْمُثْبِتَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الخطابي وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ قول ابْنِ الزَّاغُونِي وَهُوَ آخِرُ قوليْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَكَانَ الْقَاضِي أَوَّلًا يَقول بِقول الْأَشْعَرِيِّ: إنَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ. وَهَذَا قول الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْبَيْهَقِي وَنَحْوِهِمَا.
وَأَمَّا أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَتْبَاعُهُ فَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا الْأَشْعَرِيَّ وَقُدَمَاءَ أَصْحَابِهِ فِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ فَلَمْ يُثْبِتُوهَا. لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا فَتَأَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَهَذَا أَوَّلُ قوليْ أَبِي الْمَعَالِي؛ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي إثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا كالرَّازِي والآمدي. وَآخِرُ قوليْ أَبِي الْمَعَالِي الْمَنْعُ مِنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ السَّلَفِ وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ مُسَوَّغًا أَوْ مَحْتُومًا لَكَانَ اهْتِمَامُهُمْ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ اهْتِمَامِهِمْ بِغَيْرِهِ. فَاسْتَدَلَّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّأْوِيلُ وَجَعَلَ الْوَقْفَ التَّامَّ عَلَى قوله: {وَمَا يعلم تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ}. ذَكَرَ ذَلِكَ فِي (النِّظَامِيَّةِ فِي الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ). وَهَذِهِ طَرِيقَةُ عَامَّةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ يَرَوْنَ التَّأْوِيلَ مُخَالِفًا لِطَرِيقَةِ السَّلَفِ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرَ لَفْظَ (التَّأْوِيلِ) وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالْكَلَامِ عَلَى قوله: {وَمَا يعلم تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} وَأَنَّ كِلَا الْقوليْنِ حَقٌّ. فَمَنْ قال: لَا يعلم تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَأَرَادَ بِهِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا يعلمهَا إلَّا اللَّهُ. وَمَنْ قال: إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يعلمونَ التَّأْوِيلَ فَالْمُرَادُ بِهِ تَفْسِيرُ القرآن الَّذِي بَيَّنَهُ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي لَفْظِ (التَّأْوِيلِ) عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ وَأَنَّهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ دُونَ الرَّاجِحِ دَلِيلٌ يَقْتَرِنُ بِهِ. فَهَذَا اصْطِلَاحُ مُتَأَخِّرٌ وَهُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ تَأْوِيلَاتُ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَكَذَلِكَ يَقول أَحْمَد فِي (رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة): الَّذِينَ تَأَوَّلُوا القرآن عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ أَحْمَد عَلَى مُتَشَابِهِ القرآن وَفَسَّرَهُ كُلَّهُ.
وَمِنْهُ تَفْسِيرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ السَّلَفِ وَمِنْهُ تَفْسِيرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْجَدُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَهُ البغوي لَا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقال: أَمَّا الْإِتْيَانُ الْمَنْسُوبُ إلَى اللَّهِ فَلَا يَخْتَلِفُ قول أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَمَكْحُولِ وَالزُّهْرِيِّ. وَالْأَوْزَاعِي وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَالِك بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَتْبَاعِهِمْ أَنَّهُ يَمُرُّ كَمَا جَاءَ. وَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي القرآن أَوْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ كَأَحَادِيثِ النُّزُولِ وَنَحْوِهَا. وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّلَامَةِ وَمَنْهَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِظَاهِرِهَا وَيَكِلُونَ عِلْمَهَا إلَى اللَّهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ. عَلَى ذَلِكَ مَضَتْ الْأَئِمَّةُ خَلَفًا بَعْدَ سَلَفٍ كَمَا قال تعالى: {وَمَا يعلم تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقولونَ آمَنَّا بِهِ}.
وقال ابْنُ السَّائِبِ فِي قوله: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}: هَذَا مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ وَذَكَرَ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ الخطابي فِي هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَقَعُ الْإِيمَانُ بِمَا لَا يُحِيطُ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِهِ عِلْمًا بِحَقِيقَتِهِ؟
فَالْجَوَابُ: كَمَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالنَّارِ وَالْجَنَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَا نُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ وَإِنَّمَا كُلِّفْنَا الْإِيمَانَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَعْرِفُ عِدَّةً مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَكَثِيرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا نُحِيطُ بِصِفَاتِهِمْ ثُمَّ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي إيمَانِنَا بِهِمْ؟ وَقَدْ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: «يَقول اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْت لَعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ».